لعد ذلك استفسر «هذا كيف يمكن أن أقنعه؟». إجابة الأمير على ذلك النحو من الوضوح والمباشرة لم تكن معروفة من قبل في أدبيات السياسة الخارجية السعودية. ذلك صحيح. لكن الأمير ذهب أبعد من هذا حينما قال: «نعرف أننا هدف رئيس للنظام الإيراني. التوصل إلى قبلة المسلمين هدف رئيس للنظام الإيراني. لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لكي تكون المعركة مِعِهُم في إيران وليس في السعودية». ذلك الكلام موجه ليس إلى المشاهد في السعودية، وخارج السعودية، بل موجه إلى القيادة الإيرانية قبل غيرها. ومفاده أن مرحلة التكاذب، والمسايرة، وتجنب وضوح المواقف تجنباً للمواجهة لم تعد خياراً مجدياً. القيادة الإيرانية تسعى الإبقاء على سياسة التكاذب هذه. بالنسبة إلى الرياض ذلك خيار ينتمي إلى مرحلة انقضت بظروفها وإيجابياتها وسلبياتها. وبهذا المعنى يكون ولي ولي العهد، في حديثه، لم يغلق باب الحوار مطلقاً مع إيران، وإنما طلب أن يضع القيادة الإيرانية أمام نفسها، وأمام المنطقة بأن الحوار السياسي بين الدول ينبغي أن يكون كذلك. وحتى يكون أيضا ينبغي إدراج المذاهب الدينية الرسمية لهذه الدول، ومعها الرؤى الغيبية، جانباً.
ومن بعد ذلك فإن أبرز متطلبات لِقاءْ جاد ومجد أن تتخلي إيران عن الميليشيات المذهبية كرافعة لدورها الإقليمي، ولتدخلاتها في المنطقة، وكأداة للضغط على مجريات الحوار.
بعبارة أخرى، ينبغي أن يكون الحوار بين دولة وأخرى، وليس بين دولة وأخرى مدججة بالمذهبية، وبميليشيات لنشر هذه المذهبية.
إصرار إيران على التمسك بطريقة الميليشيا في دورها في العالم العربي يعني أنها تتعامل مع فكرة الحوار كغطاء لشيء آخر، لا صلة له بالحوار وما ينبغي أن يختتم إليه.
اللافت في ذلك السياق أنه في الزمن الذي تتمسك فيه إيران ببناء وتمويل الميليشيات في العالم العربي، تحرم تواجد أي ميليشيا على أراضيها. وبالتكامل مع هذا تبني إيران تحالفاتها في العالم العربي، وبشكل حصري على أساس مذهبي.
هنا تبادر إلى ذاكرتي، وأنا أستمع إلى حديث الأمير محمد بن سلمان، ما سمعته من مسؤل إيراني مسبق جمعتني به في صيف العالم المنصرم ندوة مغلقة في الدوحة عن الحوار العربي – الإيراني.
وقتها سألت ذلك المسؤول وهو يناشد بأهمية الحوار عن جدوى هذا وبلاده تصر على فرض وجودها العسكري ونشر نفوذها السياسي في العراق وسورية.
كانت إجابته لافتة وغير مسبوقة في مباشرتها.
حيث قال: «إنه نتيجة الحرب العراقية – الإيرانية، والدعم السعودي الخليجي لصدام حسين آنذاك، استقرت القيادة الإيرانية على أهمية توصيل خطوط الدفاع من داخل إيرن إلى داخل العالم العربي».
هنا قلت لهذا المسؤول إنكم بذلك تتبنون الاستراتيجية الإسرائيلية نفسها في مسألة الحوار والمفاوضات مع العرب.
والحقيقة أن التمعن في ما تقوله إيران وما تفعله يفصح أن هناك شبهاً يدنو من التماثل بين السياسة الإيرانية والسياسة الإسرائيلية إزاء العالم العربي.
كلتاهما جزء من النظام الإقليمي بكل مستنداته وأدواته والديناميكيات التي تحركه. المصرح في السياسة الإسرائيلية منذ يومها الأول هو محاربة الإرهاب، وتحديداً «الإرهاب الفلسطيني». أما الهدف الحقيقي المضمر وراء هذا فهو الاستيلاء على الأرض، وفرض الأأمر الواقع على الجميع.
المفاوضات بالنسبة للإسرائيليين في ذلك الإطار كيفية لجمع الزمن للتوصل الى الهدف غير المعلن.
إيران تستعمل النهج نفسه. فالمعلن في خطابها السياسي هو محاربة التكفير، وتحديداً التكفير السني العربي.
والمضمر في سياستها هو التمدد، وتمديد النفوذ داخل بلدان عربية بالتحالف مع شديد محلية في هذه الدول، تشترك معها في المذهب.
هناك وجه شبه آخر. فإسرائيل تستند إلى الموروث اليهودي الذي ترى أنه يعطيها حق إرجاع أرض فلسطين. واستناداً إلى هذا تعتبر ذاتها حصراً دولة اليهود في العالم، الذين عليهم الهجرة إلى هذه الأرض.
من ناحيتها تستند الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الموروث الشيعي، وتحديداً فكرة عصمة الإمام، وولاية الفقيه.
وتنطلق من هذا في سياستها إزاء العرب من من غير غيرهم. وعلى ذلك تعتبر ذاتها دولة الشيعة في العالم.
بعبارة أخرى، كما أن إسرائيل تفاوض العرب لجمع مزيدا من الأرض، تسعى إيران من الحوار مع العرب، ومع السعودية تحديداً، أن يكون غطاء لجمع مزيدا من النفوذ والتوسع، وتقوية الانقسام الطائفي داخل العالم العربي باعتباره بوابتها للإبقاء على ذلك النفوذ.
بالعودة إلى كلام المسؤول الإيراني نجد أن بيان توصيل خطوط الدفاع الإيرانية إلى داخل العالم العربي هو ما توج بالفعل في العراق وسورية، وقبلهما في لبنان.
وهو بيان يتم تنفيذه بتعاضد كيفية ميليشيات محلية، ونشر النفوذ السياسي والمالي داخل هذه الدول. قد تنم هذه السياسة عن ذكاء من خلال الاستعاضة عن الغزو المباشر بقوى محلية تحقق الهدف نفسه. إلا أنه ذكاء مكشوف، ينم عن سطوة سافر أسفل غطاء مذهبي.
يبقى السؤال: أين يجب أن تقف خطوط الدفاع هذه؟ الفكر الديني لا حدود له، خصوصاً في بعده السياسي.
والنظام السياسي الإيراني نظام ثيوقراطي – مذهبي عابر للحدود. ولاية الفقيه التي يستند إليها هي المقابل السياسي الشيعي للمفهوم السني للخلافة.
لا يكتمل محتال أحدهما، ولا تتحق مشروعيته، على بالرغم من الاختلافات العقدية والفقهية بينهما، من من غير الاستيلاء على قبلة الإسلام.
يقول الدستور الإيراني في ديباجته: «وبملاحظة المضمون الإسلامي للثورة الإيرانية… فإن الدستور يقدم أرضية ديمومة هذه الثورة في داخل وخارج الوطن…. إلى بناء الأمة العالمية الواحدة…».
وبالنسبة إلى ما يسميه ذلك الدستور بالجيش العقائدي ينص على أن القوات المسلحة وحرس الثورة «لا يتحملان فحسب إلتزام حفظ وحراسة الحدود، وإنما يتكفلان أيضاً عبء كلمة عقائدية، أي الجهاد في مسعى الله، والنضال من أجل تمديد حاكمية قانون الله في كل أرجاء العالم».
لا يعتَقِد من إيران طبعاً أن تفصح عن هدفها النهائي، لكن مثل هذه النصوص وغيرها جرت ترجمتها عملياً حتى حاليا في ما يسمى بـ«نقل خطوط الدفاع» إلى العراق وسورية، ونشر الميليشيات.
إيران تسمي ذلك تصديراً لـ«الثورة»، وهو ليس كذلك.
وإنما هو رجعية ونكوص إلى كهوف الانغلاق الديني، واستعادة الاصطفاف والتحالفات الطائفية.
وبما هو كذلك، فإنه يستلزم مصارحة ومواجهة تأخرت كثيراً.
ربما أنه تأجل محسوب ومبرر.
لكن يبقى أن ما قاله ولي ولي العهد السعودي بكل وضوح وجرأة غير مسبوقتين موقف شجاع يحتاج إلى ما هو أزيد من صراحة القول والمواجهة المباشرة.
يستلزم القي مشروع للمنطقة يستند إلى الدولة في مواجه الطائفة، والوطن في مواجه المذهب، ورحابة الحرية في مواجه ضيق الطائفية.
كلام الأمير بهذا المعنى ليس بالضرورة رفضاً للحوار بقدر ما أنه يضع شروطاً تجعل منه حواراً حقيقياً، وليس غطاء لتمرير مشروعات مدمرة، كما نشاهد في العراق وسورية، وفرض وقائع على الأرض في أماكن أخرى.
احتجت إيران، كما هو متوقع، على حديث الأمير، وتمسكت بفكرة الحوار.
إلا أنها لم تضف شيئاً جديداً.
ومن من غير ذلك الحديث لا معنى للحوار، ولا طائل من ورائه لا للسعودية، ولا للمنطقة.